لكي يكون حرص واهتمام الشركات المصنّعة على تتبع وتنفيذ التوجيهات والمتطلبات العالمية الخاصة بالممارسة التصنيعية الجيدة، لكي يكون فعلياً وفعَالاً ينبغي أن يتوسع مفهوم هذه المتطلبات من مجرد أسس وقواعد يتم تدريب العاملين عليها دورياً، واشتراطات وقيود يومية صارمة للعاملين في البيئة التصنيعية باعتبارهم المؤثر المباشر على جودة المنتوج الدوائي،
وأقل حدة وصرامة للأقسام الخدمية المساعدة وفق تخصصاتها وتأثيرها غير المباشر على جودة المنتوج ، ينبغي أن يتغير إلى معرفة ووعي بأسباب صدور هذه التوجيهات والأحداث المحزنة التي أنتجتها وهي في بعض الحالات مميتة، ولنتخيل أن ضحاياها هم أطفال أخذوا الدواء من أيدي أمهات خافت عليهم من ارتفاع درجة الحرارة فتسرب الموت عبر مخفّض الحرارة،
ولنتصور أشخاصاً اصحاء يمثلون ركيزة في عدد من البيوت كأباء أو أمهات أو أبناء وهم بدورهم دعامة أساسية في وظائفهم ومؤسساتهم التعليمية وجامعاتهم كمنارة ومستقبل للبلد ولأن بهم شئ من البدانة يقضون بالموت نتيجة لتناول دواء لتخسيس الوزن، وغيرها من الأمثلة الواقعية كثير كأقراص علاج الصداع تؤدي لموت7 أشخاص وأكسير مضاد للجراثيم يقتل 107 أشخاص ومزيل للشعر يسبب الصلع، واستعمال بعض الكريمات والمستحلبات يسبب التسمم بالزئبق وماسكرا للرموش تسبب العمى وصبغة شعر تسبب تسمم بالرصاص……..
وغيرها من الاحداث التي ساهمت رغم مأساويتها في سن وتشريع القواعد الممارسة التصنيعية الجيدة على مستوى العالم، ومثل هذه الاحداث متى ما عرفت يتحول المفهوم إلى طبع وسلوك ينشأ من الحرص الواعي وليس الامتثال للأوامر.
وهذه إطلالة سريعة على بعض هذه الاحدات حسب تسلسلها التاريخي لنشأة التشريعات عبر إدارة الأغذية والأدوية بالولايات المتحدة. ففي مطلع عام 1900 م بالولايات ظهر منتوج دوائي تم تسوقيه كعلاج فعال لمختلف الأمراض حتى السرطان ويصلح للخيول أيضاً، في العام 1902م سنّ تشريع التفتيش على المصانع وبائعي المنتوجات البيولوجية واختبار نقاوة وشدة المنتوج وذلك نتيجة لوفاة 12 طفل تم حقنهم بلقاح الدفتيريا الملوث ببكتيريا التيتانس العصوية،
في العام 1905م ظهر كتاب The Jungle وتحدث بشكل عام عن الظروف التصنيعية الجيدة المتوجب اتباعها، الكاتب Upton Sinclair صحفي ومزارع، وموضوع الكتاب مصنع تعبئة القمح بشيكاغو وخلال سنتين من 1905-1906م صدر تشريع التوسيم أو العنونة عن ممثلية الأغذية والأدوية وظهرت مفردة (مغشوش Adulterated ) للتعبير عن الأدوية المصنعة دون اتباع خطوات الممارسة التصنيعية الجيدةGMP .
في الثلاثينات عرضت إدارة الأغذية الأدوية بعض المنتجات الغذائية والأدوية والمعدات الطبية ومواد التجميل التي تمثل خطورة على حياة المستهلكين من بينها صبغة الشعر والماسكرا ومزيل الشعر وأدوية التخسيس وأداة لتثبيت الرحم وتستخدم أيضاً لمنع الحمل ومالم توضع بشكل سليم تتسبب في تمزق الرحم.
العام 1935م شهد دخول مركبات الكبريت Sulfa drugs للعلاج الدوائي والعديد من الشركات تنتج مضاد الجراثيم اكسير سلفانيلامايد Sulfanilamide احد الشركات انتجته ملوثاً بمادة ثنائي ايثيلين جلايكول Diethylen glycol مما أدى لوفاة 107 أشخاص أغلبهم من الأطفال فظهرت ممثلية الأغذية والأدوية ومستحضرات التجميل في العام 1938م ونظام يلزم الشركات المصنعة بالتأكد من أمان المنتوج قبل تسويقه.
ما بين الأربعينيات والخمسينيات حدثت مآسي أخرى استوجبت تشريعات جديدة، ففي العام 1941م توفي مايقارب عن 300 شخص دون أن يكون للحرب العالمية الثانية شأن بذلك، لأن أحدى الشركات المصنعة لأقراص المضاد الجرثومي سلفاثيازول Sulfathiazole،
قامت بتصنيع الأقراص المهدئة فينوباربيتال Phenobarbitalملوثة بمادة السلفا الأمر الذي جعل إدارة الأغذية والأدوية تراجع الخطوات التصنيعية وطرق ضبط الجودة التي عرفت لاحقاً بمتطلبات الممارسة التصنيعية الجيدةGMP . واصبحت شهادة تحرير المنتوج أساسية لأغلب المنتجات الدوائية كما أنها فرضت على الشركات ارسال عينة من المنتوج لتحليله من قبل الادارة لتسمح بالافراج عنه. الاحداث الموازية اكتشاف الانسولين Insulin في 1941م والبنيسيللين Penicillin في العام 1945م. وتطعيم شلل الاطفال Polio في العام1955م،
وسعت أغلب الشركات المصنعة لإنتاج التطعيمات الخاصة بها وإحدى هذه الشركات أخفقت في جعل فيروس الشلل يفقد فاعليته فاصيب حوالي 60 شخصاً بالمرض وانتقل المرض بالعدوى لـ 89 أخرون من عائلاتهم. في الستينيات تم تسويق أقراص النوم تاليدومايد Thalidomide في أوروبا للاستعمال كمنوم ولعلاج دوار الصباح واستخدمته النساء الحوامل خلال الثلاثة أشهر الأولى من الحمل ونتج عن ذلك أكثر من 1961 حالة من حالات الولادة المشوهة. مع بدايات السبعينيات وحتى العام 1978م ظهرت المدونة الفدرالية 21 الجزئين 210 و211 الخاصة بالممارسة التصنيعية الجيدة GMP للمنتجات الدوائية و820 والأدوات الطبية medical device وذلك لغرض المساعدة في ضمان الأمان والفاعلية لهذه المنتجات،
وفي العام 1979م الممارسة التطبيقية الجيدة للمعامل GLP. الثمانينيات والتسعينيات شهدت بعض المآسي، بوفاة سبعة أشخاص في العام 1982م نتيجة لتناول كبسولات اسيتامينوفين Acetaminophen علاج الصداع ومخفض الحرارة ملوثاً بالسيانيد، من بينهم فتاة في 12 من العمر وإمراة بعد ولادة طفلها الرابع مباشرة، الشركة المصنعة استرجعت 31 مليون قنينة من عبوات هذا الدواء الذي يعد من الأدوية الآمنة وتصرف بدون وصفة طبية.
العام 1983م إدارة الأغذية والأدوية اصدرت التشريعات الخاصة بالتغليف وضمنتها للمتطلبات التصنيعية، مأساة الأسيتامينوفين شكّلت صدمة في الصناعة، واصبحت القناعة السائدة لايكفي أن نقوم بتدريب كافة العاملين والتأكد من فاعلية التدريب والإشراف الجيد، وانما ينبغي القلق بشأن كم من البشر قد يكونوا موتى عند استعمال منتجاتنا ونحن من يتوجب عليه رعاية الصحة العامة للأفراد.
وظهرت العديد من الوثائق الدليل، كالتفتيش على انظمة الحاسب الآلي 1983م, والدليل للمبادئ العامة لتثبتية العملية 1987م، ومع ذلك شهد العام 1989م وفاة 38 شخص نتيجة لاستعمال علاج للأرق والاكتئاب والسمنة منتج من مادة فعالة قوامها أحماض أمينية وهي مادة إل-تربتوفان.
العام 1990م وفاة مايزيد عن 62 طفل هاييتي نتيجة لتلوث مادة الجليسرين بمادة ثنائي ايثلين جلايكول. أصدر كل من الاتحاد الاوروبي والولايات المتحدة مسودة الدليل لتصنيع المواد الفعالة واعتمدت مسودة الولايات في العام 1998م.
كما اشتملت التسعينيات على مراجعة وتطوير المتطلبات وإضافة بنود جديدة تتعلق بالمواد الحيوية.
مؤتمر التآلف العالمي ICH وهو عبارة عن اتفاقية بين مجموعة من الافراد من أوروبا وأمريكية الشمالية واليابان يعملون على عدد من وثائق الجودة والأمان والفاعلية، وعند اختتام أعمالهم تبنتها المنظمة واعتمدتها كتطبيق صناعي في كافة الدول المشاركة في الاجتماعات وفي العام 1996م صدر الدليل E6 الخاص بالتطبيقات الاكلينيكية الجيدة والذي يعتمد على البشر في التجارب الاكلينيكية للأدوية.
الرفع التدريجي واعتماد التغيير، من الوثائق ذات الرؤية المستقبلية التى اصدرتها إدارة الأغذية والأدوية وتصف المتطلبات الاساسية ماقبل اعتماد التغييرات في أي منتوج دوائي، هذه الوثيقة تعنون أنواع المعلومات أو الدراسات اللازمة اعتماداً على المخاطر المتوقعة بناءً على هذه التغييرات.
هذه الاطلالة السريعة تلقي علينا بعبء المسئولية في عالمنا العربي ، بدأنا..! كيف سنتستمر..؟ وإلى أين سننتهي…؟
د. أم الخير الباروني .